يسلمون عليه تسليمًا، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا﴾ [النور: ١].
فإن قلت: فما معنى قوله: ﴿فِي العَالَمِينَ﴾؟ قلت: معناه: الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعًا، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل: ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره، وتسليم العالمين عليه غلى آخر الدهر بأنه كان محسنًا، ثم علل كونه محسنًا بأنه كان عبدًا مؤمنًا، ليريكجلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه.
[﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ (٨٣) إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إذْ قَالَ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ ٨٣ - ٨٧]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقيد، أي: تركنا على نوح في الآخرين من الأمم ذكرًا جميلًا، وكذا وكذا، كقوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤]، ويكون ﴿سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ﴾ دعاء من الله تعالى كقوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: ٥٩].
قوله: (فما معنى قوله: ﴿فِي العَالَمِينَ﴾؟ ) جاء في السؤال بالفاء، يعني: إذا كان معنى ﴿وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾: تركنا في الاخرين من الأمم أن يسلموا عليه تسليمًا ويدعوا له، فما معنى ﴿فِي العَالَمِينَ﴾ فإنه كالتكرار؟ وأجاب: إن في إعادة ذكر العالمين الشمول والاستغراق؛ لئلا يخرج أحد ممن يدخل في العالمين من الملائكة والثقلين منه، والحاصل أن ﴿فِي العَالَمِينَ﴾ كالتتميم للمعنى السابق والمبالغة فيه، ولو اكتفى بقوله: ﴿وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ لقصر عن هذا المعنى، فرجع معنى: ﴿وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ﴾ إلى قوله: "ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم".
قوله: (ليريك جلالة محل الإيمان) يعني: ان نوحًا ليس ممن لا يؤمن حتى يوصف بالإيمان تمييزًا، وإنما جيء به للمدح، يعني أن صفة الإيمان من الصفات التي تصلح أن يمتدح بها النبي المرسل ترغيبًا للمؤمن.


الصفحة التالية
Icon