تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. وروي: أنه نقش خطيئته في كفه؛ حتى لا ينساها. وقيل: إن الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرًا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني: معسرًا ما له إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته.
[﴿يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ٢٦]
﴿خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ أي: استخلفناك على الملك في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها. ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه.
و﴿جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً﴾ ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير. ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته)، الانتصاف: قصد الزمخشري في كلامه كله: تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأجرى هذه الآية على ظاهرها، وجعل الذنب عجلته في الحكم؛ لأن الباعث عليها التهاب الغضب للحق، وهو أخف من الأول، ويؤيده وصيته داود عليه السلام بعد ذلك بقوله: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى﴾ [ص: ٢٦]، فما جرت الوصية بذلك إلا والذي صدر منه من هذا النوع. والمختار: أن الأنبياء منزهون عن الصغائر، والتماس المخلص لمثل هذه القضية هو الحق الأبلج والسبيل الأنهج.


الصفحة التالية
Icon