وأن يكون حالًا. فإن قلت: تعالى الله عن المكان، فكيف صح أن يقال: وسع كل شيء؟ قلت: الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء)، أصلة نحو قول صاحب "المفتاح" في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]: إسناد الاشتعال إلى الرأس. وعليه ما روينا عن مسلم عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبمها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". وإلى هذا المعنى ينظر ما جاء في سورة "الشورى": ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: ٥] فإن الاستغفار فيها محمول على عموم المجاز، وهو طلب مطلق الغفران، فيراد بالاستغفار في حق المؤمنين خاصة: غفران الذنوب وإزالة العقاب في الآخر وإيصال الثواب، كما قال ها هنا: ﴿وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ﴾ ثم قال: ﴿رَبَّنَا وأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، وفي حق الكافرين: ترك معاجلة العقاب في الدنيا بشؤم كفرهم، كما ذكر في "الفرقان" في قوله: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦]. وفي حقهما جميعًا بإدرار الرزق والارتفاق بما خلق لهم من المنافع الجمة، وبالترجم فيما بينهم.
ويعضده تذييل تلك الآية بقوله: ﴿أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى: ٥] حيث صدره بكلمة التنبيه المؤذنة بالتحقيق، وأردفها بـ"إن" المؤكدة، وأتى بالاسم الجامع، ووسط ضمير الفصل بين المعرفتين، فإذن هذه الآية التي في سورة "المؤمن" مختصة بمن وجد منهم الإيمان بدليل العدول من المؤمنين إلى الذين آمنوا، وأما قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ


الصفحة التالية
Icon