وتبكيت شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشعناء التي هي قتل نفس محرمة، وما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها؛ وهي قوله: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾ مع أنه لم يحضر لتصحيح قوله بينة واحدة، ولكن بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ ! وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به، وليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم. ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا، أي: وقت أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه دل على أنه منهم في القرابة، وأنه يعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو ما هم لهم منه.
قوله: (وهو ربكم لا ربه وحده، وهو استدراج لهم)، اعلم أنه قد أشار في كلامه إلى ثلاث عبارات كلها دالة على الاختصاص بمعونة التركيب والمقام الاستدراجي:
أحدهما: قوله: "ما لكم علة قط في ارتكابها إلا كلمة الحق"، وذلك من قوله: :﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ حيث نكر الرجل وأوقع قوله: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾ علة للقتل على سبيل التوبيخ، كأنه لم يعلم من موسى عليه السلام إلا أنه رجل ما، ولم يسمع منه قول إلا ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾، وهو عندهم أظهر من الشمس، وأقواله لا تحصى، نحوه قوله تعالى: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٧] قال: "فنكروه لهم، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول".
وثانيها: قوله: "لم يحضر لتصحيح قوله بينه واحدة، ولكن بينات عدة"، وهو من جمع البينات، وتحليتها باللام.
وثالثها: قوله: "وهو ربكم لا ره وحده"، وهو من تخصيص ذكر الرب وإضافته إليهم، أي: الذي يدعو إليه موسى هذا المعلوم المتميز الذي لو قيل لكل مميز عاقل: من رب السماوات والأرض؟ ليقولن: الله. كما قال في "الشعراء" بعدما سأل اللعين: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣ - ٢٤].
وإليه الإشارة بقوله: "من عند من نسب إليه الربوبية"، ولهذا لما قال اللعين: ﴿ولْيَدْعُ رَبَّهُ﴾، أجاب عليه السلام بقوله: ﴿إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم﴾.
قوله: (ولك أن تقدر مضافًا محذوفًا)، عطف على قوله: "لأن يقول، وهذا إنكار منه