وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته.
ثم ضرب لهم مثلًا، فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عزّ وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها، ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوّ بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وضعفاء، وأغنياء ومحاويج، وموالي وخدمًا، ليصرف بعضهم بعضًا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم، ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا، وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى، ورأفته العظمى، وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة، والسلم إلى حلول دار السلام؟
ثم قال: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ يريد: وهذه الرحمة -وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب- خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم ضرب له مثلًا): أي: جيء بقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ﴾ عامًا بعد قوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾، أي: أمر النبوة، وسماه "مثلًا"؛ لأن القصد منه إظهار عجزهم في تدبير أمر المعيشة الدنيوية، فكيف في تدبير أمور الدين.
قوله: (خويصة أمرهم): النهاية: "خويصة أحدكم: حادثة الموت التي تخص كل إنسان، وهي تصغير "خاصة"، وصغرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك".
قوله: (ويترافدوا): الجوهري: "الترافد: التعاون، والمرافدة: المعاونة".
قوله: (ويحصلوا على مرافقهم): أي: منافعهم، الأساس: "أرفقني بكذا: نفعني، وارتفقت به: انتفعت، وما لي فيه مرفق".


الصفحة التالية
Icon