ثم قال: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: تندفعون فيه؛ من القدح في وحي الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرًا تارة وفرية أخرى، ﴿كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة: وعيد بجزاء إفاضتهم، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا.
فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَمْلِكُونَ لِي﴾؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك النصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله، فما تغنون عني -أيها المنصوحون- إن أخذني الله بعقوبة الافتراء عليه؟ !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (﴿بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: تندفعون فيه): اندفع الفرس؛ أي: أسرع، واندفعوا في الحديث؛ أي: خاضوا. الراغب: "فاض الماء: إذا سال منصبًا، وأفاض إناءه: ملأه حتى أساله، قال تعالى: ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾، ومنه: فاض صدره بالسر، أي: سال، ورجل فياض: سخي، ومنه استعير: أفاضوا في الحديث: إذا خاضوا فيه، وحديث مستفيض: منتشر، وقوله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٩٩]، أي: ادفعوا بكثرة؛ تشبيهًا بفيض الماء".
قوله: (وإشعار بحلم الله عنهم): نظيره قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ إلى قوله: ﴿حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: ٤١]، أي: لا يعاجل بالعقوبة بأن لا يمسكها ويهدمها عليهم لعظم جرمهم.
قوله: (فكأنه قال لهم: أن افتريته وأنا أريد بذلك النصح لكم): خلاصة الجواب: أن إسناد "لا تملكون" على الفرض، وهو من باب إرخاء العنان والكلام المنصف.