قلت: العامل في "إذ" محذوف، لدلالة الكلام عليه، كما حذف من قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ [يوسف: ١٥]، وقولهم: حينئذ الآن، وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون: هذا إفك قديم. فهذا المضمر صحّ به الكلام، حيث انتصب به الظرف، وكان قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ مسببًا عنه، كما صحّ بإضمار "أنّ" قوله: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: ٢١٤]، لمصادفة "حَتَّى" مجرورها، والمضارع ناصبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: الاستقبال إذا دل على الاستمرار فيما مضى حالًا فحالًا، نحو: لو تحسن إلى لشكرت، كان بمعنى المضي، وإذا دل على الاستمرار فيما يجيء وقتًا فوقتًا كان متوغلًا في معناه، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، وربما دل على الاستمرار دائمًا، نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، وهذا من القبيل الثاني، ولذلك قرن بالسين، وذلك أن قوله: ﴿وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ متصل بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وكَفَرْتُم بِهِ﴾، على معنى: أخبروني أن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم ظالمين؟ ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم عند سماعهم هذا الكلام المنصف الذي ليس بعده إرشاد أظهروا العناد، ولم ينظروا بنظر الإنصاف، وتكلموا بما هو نص على الاستكبار والتجبر، وقالوا لأجل الذين آمنوا: لو كان الإيمان خيرًا ما سبقونا إليه. ولهذا وضع المضمر.
فنبه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ﴾ حبيبه صلوات الله عليه على تماديهم في العناد، وإقناطًا له عن إيمانهم، وتسليةً عن طعنهم، وأنهم حين لم يهتدوا بهذا الكلام المنصف ظهر عنادهم، فأعلم أنهم لا يهتدون بعد ذلك أبدًا، ويستمر منهم حينًا بعد حين الطعن في القرآن، فتارةً يقولون: أساطير الأولين، وأخرى: إنه سحر مبين، وإفك قديم، وأمثال ذلك.
قوله: (كما صح بإضمار "أن"): يريد: أن "إذ" ها هنا تقتضي عاملًا، نظير ﴿يَقُولَ﴾ هناك تستدعي ناصبًا، والفاء هنا تقتضي سببًا، نحو ﴿حَتَّى﴾ هناك تستدعي مجرورًا، فيقدر هنا: "ظهر عنادهم"، ليكون عاملًا في "إذ" سببًا لقوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾، وهناك "أن" ليكون عاملًا في ﴿يَقُولَ﴾، ويجعل الفعل في تأويل المصدر؛ ليصح أن يقع مجرورًا بـ ﴿حَتَّى﴾.


الصفحة التالية
Icon