وحقيقة قولهم: جلست بين يدي فلان: أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبًا منه، فسميت الجهتان: يدين؛ لكونهما على سمت اليدين مع للقرب منهما توسعًا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة ها هنا على سنن ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان: تمثيلِا، ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان، وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر عن سفره؛ إيذانًا بشدة رغبتهم فيه، نحوه قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣].
قوله: (كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه): يعني: هو من المجاز الذي يسمى بتسمية الشيء باسم مجاوره، نحو: جرى الميزاب، وسال الوادي.
قوله: (على سنن ضرب من المجاز): المغرب: "سنن الطريق: معظمه ووسطه، وقوله: فمر السهم في سننه، أي: في طريقه مستقيمًا كما هو لم يتغير، أي: لم يرجع عن وجهه".
قوله: (وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلًا): أي: استعارة تمثيلية، شبه تعجيل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من أمر الدين بغير إذن الله ورسوله، بحال من تقدم بين يدي متبوعه إذا سارا في الطريق، وأنه في العادة مستهجن، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملًا في جانب المشبه به من الألفاظ، والغرض تصوير كمال الهجنة، وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله.
ومثله قوله تعالى في حق الملائكة: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ [الأنبياء: ٢٧]، أصله: لا يسبق قولهم قوله، فنسب السبق إليهم، وجعل "القول" محله؛ تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله.
قوله: (دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب): هو افتعال من الحذو، وفيه معنى الاعتمال،


الصفحة التالية
Icon