وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخوّن بغض الأمناء، فيقول: لعل الله خذلني، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق ﴿بِكَلِماتِهِ﴾ بوحيه أو بقضائه، كقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: ١٨]، يعني: لو كان مفتريًا كما تزعمون لكشف الله افتراءه، ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا الأسلوب مؤداه استعباد الافتراء من مثله): وهو أنه تعالى وبخهم على الافتراء -المؤدي إلى إيجاب الختم والطبع الذي هو من صفة أبعد خلق الله وألعنهم- على مثل أكرم خلق الله وأحبهم إليه، هيهات، وآدم ومن دونه تحت لوائه. هذا هو معنى الاستبعاد الذي صرح به، ومعنى المثلين في قوله: "في مثل حالهم" و"الافتراء من مثله". وعن بعضهم: "وفي هذا تذكير لنعم الله بذكر إحسانه إليه وفضله له بما أكرمه بأنواع الكرامات التي أكرمه بها؛ ليشكر ربه على ذلك، ويرحم على أولئك بما ختم على قلوبهم"، انتهى كلامه.
ثم جيء بقوله: ﴿ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ﴾ إلى آخره؛ تذيلًا للكلام وتتميمًا لمعنى الاستعباد، أي: ليس من شأنه صلوات الله عليه ذلك، ولا من عادة الله، إلا محو الباطل وإثبات الحق، ولا من صفات هذا الكتاب الكريم أن يحوم الافتراء حوله، وأنه من كلمات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيه تعريض بافترائهم، وأنهم المختوم على قلوبهم، وأنهم أخس خلق الله وأنذلهم وأبعدهم من رحمة الله، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
لله رده! ما ألطف بيانه، وما أدق نظره! ولو لم يكن في كتابه إلا هذا التلويح لكفاه مزية وفضلًا.


الصفحة التالية
Icon