قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.
فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؟
قلت: بكت بتلك الجمل الأول، واردة على سنن التعديد، لتكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تفريغ الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكرا أيادي المنغم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بكت بتلك الجمل الأول) يعني: أن الكفار كانوا مقرين بأنه عز وجل خالق السماوات والأرض، وأنه مولى النعم جلائلها ودقائقها، فعدل من مقتضى العطف والانتظام في سلك التأليف بحرف النسق إلى أسلوب التعديد، للإيذان بأن النعم غير متناهية، وغير داخلة تحت الضبط والإحصاء، وإنما يعد بعضها عدًا فذكر منها ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقيها اكتفاءً به، وبعد التنبيه على هذه الدقيقة، رجع إلى مقتضى الظاهر من عطف الشيء على ما يضمه المفكرة بجامع العقل، أو الوهم، أو الخيال، على منهاج الترصيع، نحو: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥ - ٢٦]، وإليه الإشارة بقوله: "ثم رد الكلام إلى منهاجه، بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله".
الانتصاف: خصت الجمل الأول بكونها تبكيتًا للإنسان لالتصاق معانيها به، لأنه مذكور فيها نطقًا وإضمارًا، ومحذوفًا مرادًا؛ نطقًا في قوله: ﴿خَلَقَ الإنسَانَ﴾، مضمرًا في: ﴿عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾ محذوفًا مدلولًا عليه في: ﴿عَلَّمَ القُرْآنَ﴾، فإنه المفعول الثاني، وقوله: الشمس والقمر والنجم والشجر، فليس فيه ذكر للإنسان ذكر البتة.


الصفحة التالية
Icon