قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله: (ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً)، أي: ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون.
فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟
قلت: ما جعل افتتانهم بالعدة سبباً لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سبباً، وذلك أن المراد بقوله (ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا): وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع (فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) موضع (تِسْعَةَ عَشَرَ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ابن أبي كبشة)، النهاية: "هو رجل من خزاعة، خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وعبد الشعرى العبور، فلما خالفهم النبي؟ في عبادة الأوثان، شبهوه به".
قوله: (فوضع ﴿فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ موضع ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾)، وكان أصل الكلام: عليها تسعةَ عشر، وما جعلنا عدة أصحاب النار، إلا هذا العد المخصوص الذي هو سبب فتنة الكفار، فوضع المسبب موضع السبب ليؤذن بأن هذا العدد المخصوص ليس إلا، للابتلاء. قال القاضي: "وما جعلنا عدتهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم، وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر، تنبيهاً على أنه لا ينفك منه. وافتتانُهم به: استقلالهم له واستهزاؤهم به، واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين.
ولعل المراد بالجعل: القول؛ ليحسن تعليله بقوله: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾. أي: ما قلنا: إن عدتهم كذا، إلا ليكتسبوا اليقين بنبوة مُحمد وصدق القرآن، لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم".


الصفحة التالية
Icon