وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن على رضي الله عنه أنه صاح بغلام له كرّاتٍ فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه. وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه.
قلت: معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه، حيث خلقه حياً لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها، أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغتراراً بالتفضل الأوّل، فإنه منكرٌ خارجٌ من حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله ﷺ لما تلاها: «غرّه جهله»، وقال عمر رضي الله عنه: غرّه حمقه وجهله، وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً وهو متفضلٌ عليك آخراً، حتى ورطه، وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: "ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"ماذا تقول؟ قال أقول: غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر، وليس باعتذارٍ كما يظنه الطماع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسوأ حالاً من الكفار؛ لأنه تعالى أثبت للكفار ظناً في قوله: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: ٣٢] ونفاه عنهم. قال القاضي: " ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه؟ وذكر ﴿الْكَرِيمِ﴾ للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام؟ وعن الاشتغال بما به يغُرُه الشيطان، ويقول: افعل ما شئت، فربك كريم لا يُعذب أحداً ولا يُعاجل بالعقوبة. وللدلالة على أن كثرة كرمه، تستدعي الجِدَّ في الطاعة لا الانهماك في المعصية اغتراراً بكرمه. وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ﴾، صفة ثانية مقررة للربوبية، مبنية للكرم، منبهة على أن من قدر على ذلك أولاً، قدر عليه ثانياً".
قوله: (كما يظنه الطماع)، قيل: "ما": مصدرية، والضمير في "يظنه" يعود إلى الظن،