هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب الراجع في قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية، كيف ولى الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا | بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ |
ذوات المنافقين والصيب نفسه، بل بين ذواتهم وذوات ذوي الصيب، ومن تقدير "مثل" أيضًا؛ لأن التشبيه أيضًا ليس بين صفة المنافقين وبين ذوات ذوي الصيب، بل بين صفتهم وصفتهم، لأن هذا التشبيه يقتضي التساوي بين الطرفين من جملة الوجوه، فإذا جعل التشبيه مركبًا هل يجب التطابق في مثل ذلك؟ وأجاب: أن مثل ذلك التطابق ليس بشرطٍ في المركب، لكن اقتضى ذلك التقدير أمران آخران: أحدهما ضمير الجمع في قوله: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ) فإنه يستدعي مرجوعًا إليه يناسبه، فلا بد من تقدير "ذوي"، وثانيهما: عطف هذا التمثيل على التمثيل الأول، فالواجب تقدير لفظ "مثل" أيضًا.
قوله: (ومما هو بين في هذا) أي: في أن المراعى هي الكيفية المنتزعة لا النظر فيما يلي حروف التشبيه أي شيءٍ كان، فإن الشاعر جاء في التشبيه بأداة الحصر، وهو يقتضي أن لا يكون الناس إلا مشبهين بالديار، وليس كذلك إذا لم تراع فيه الكيفية.
قوله: (وما الناس إلا كالديار) البيت، قوله: "بلاقع" خبر مبتدأٍ محذوف، "وغدوا" متعلق به والجملة حال عطفًا على قوله: "وأهلها بها" و"يوم" ظرف للمقدر في "بها" الذي هو الخبر. أي: الناس كالديار مأهولة يوم حلوا فيها، وبلاقع يوم رحلوا عنها. بعده: