ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلاً له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معني به جداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المباحات، وذلك إذا قصد بالفعل وجه الله وتحري مرضاته. قال بعضهم: مباحات أولياء الله كلها واجبات، وواجباتهم نوافل، فقيل: كيف ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير تناولها متحتمًا، ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير فرضهم متنفلاً. وبهذا النظر قيل: عند أكمل الصالحين تنزل الرحمة. وفرق بين قوله: (اُعْبُدُوا اللَّهَ) وبين قوله: (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) لأن في الثاني إيجاب العبادة بواسطة رؤية النعمة التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي "اعبدوا الله" إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من غير واسطةٍ، وعلى ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج: ١] وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [البقرة: ٢٧٨] فحيث ذكر الناس ذكر الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله".
قوله: (ثم استعمل) أي: "يا" موضوعة لنداء البعيد حقيقة، وإذا استعملت في القريب على المجاز، فلا يخلو أن يراد بالبعد البعد بحسب المنزلة والمرتبة، إما من جهة المتكلم، كقوله تعالى: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) [هود: ٤٤] إظهارًا لعظمته وكبريائه، وإبداءً لشأن عزته وتهاونًا بالمنادى وتبعيدًا له، وإما من جهة المخاطب، كما يقول: يا رب، ويا الله، هضمًا للنفس واستبعادًا لها عن مظان الزلفى، أو البعد بحسب الغفلة والبلادة كما يقال: يا هذا، إن البغاث بأرضنا يستنسر. وكقوله:
فانعق بضأنك يا جرير....