وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده. فإذا قال: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة، وأشدّ إلزاما لها، وأثبت لها في النفوس. ونحوه أن تقول لعبدك: احمل خريطة الكتب، فما ملكتك يمينى إلا لجرّ الأثقال. ولو قلت: لحمل خرائط الكتب لم يقع من نفسه ذلك الموقع.
[(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)].
قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما، ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحاصل الجواب: أن المطابقة حاصلة من حيث المعنى مع إعطاء معنى المبالغة، وهي: أن التقوى عرفًا عبارة عن الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن جميع المنهيات، وإليه الإشارة بقوله: "والتقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده" ويمكن أن يكون الأسلوب من باب الترقي، والمراد في "لعلكم" معنى الترجي، لكن معناه راجع إلى المكلف، أي: اعملوا في عبادة ربكم علم من يرجو الترقي فيها من الأهون إلى الأغلظ.
الانتصاف: قوله: "خلقكم للاستيلاء على أقصى غاية العبادة" مفرع على مذهبه، والأليق أن يقال: خلقكم على حالةٍ من حقكم معها أن لا تدعوا من جهدكم في التقوى شيئًا.
الإنصاف: لا يرد عليه ما ذكره؛ لأن خلقهم للاستيلاء أعم من كون الاستيلاء منهم أو من الله تعالى، وحينئذٍ يخص عمومه بأن المراد من خلق ذلك.
قوله: (خلقهم أحياءً قادرين) نحو قوله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء: ١٤٩] على أنهما حالان مترادفتان مقدرتان.