أهو من عند اللَّه كما يدعى، أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته. فإن قلت: لم قيل: (مِمَّا نَزَّلْنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت:
لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من محازه لمكان التحدي. وذلك أنهم كانوا يقولون:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويذوقوا طباعهم)، الجوهري: ذقت القوس: إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها.
قوله: (وهو من محازه) قيل: المعنى: النزول على سبيل التدريج من محاز استعمال لفظ التنزيل.
وقلت: يأباه الجمع والتعليل على أنه من توضيح الواضح، والوجه أن يقال: هو راجع إلى معنى قوله: لم قيل: نزلنا دون أنزلنا؟ لأنه من محازه ومواقعه، و ((من)): إما ابتدائي أو تبعيضي، أي: ناس منه أو بعض مواقعه، لأن فوائده كثيرة؛ أما بالنسبة إلى رسول الله؟ فلضبط ألفاظه وتسهيل حفظه ثم التدرج إلى معرفة معانيه، وأما بالنسبة إلى المؤمنين فللتوقيف على ما يفتقرون إليه من المصالح السانحة، وأما بالنسبة إلى المخالفين فلإزاحة خللهم وتبكيتهم كما نحن بصدده، ولذلك علله بقوله ((لمكان التحدي)) وبين مقام التحدي بقوله: ((ذلك أنهم كانوا يقولون)) إلى آخره. ألا ترى حين لم يقصد هذه المعاني كيف جيء بلفظ الإنزال في نحو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)] البقرة: ٤ [وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)] الكهف: ١ [إلى غير ذلك! فليتأمل مواقعها.
قال القاضي: إنما قال (مِمَّا نَزَّلْنَا) لأن نزوله نجما فنجما على ما عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)] الفرقان: ٣٢ [، فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزالة للشبهة، وإلزاماً للحجة.


الصفحة التالية
Icon