ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجه له بعد إقراره بأن (أما) وضع للتفصيل، لأنه إن أراد استقلاله بنفسه وأنه لم يتعلق بكلام سابق يدل معه على التفصيل فيكون (أما) غير موضوع له، وإن تعلق ودل، وهو الواجب، فقد حصل المرام، على أن الذوق السليم والطبع المستقيم شاهدان بأن هذا ليس كلاماً ابتدائياً.
فإن قلت: هل يجب معه الواو ليكون معطوفاً على ذلك المقدر؟
قلت: لا، ويؤيده ما روينا في "صحيح البخاري"، عن أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن منه صلوات الله عليه، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. الحديث. فكأنه قال: أما رسول الله ﷺ فممن خصه الله بالمغفرة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست كهيئته فأصلي أبداً.
الراغب: الأظهر من الآية الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، وما قال بعضهم: لو جاز أن يخاطبنا ولم يعرفنا مراده لجاز أن يخاطبنا بكلام الزنج والروم! فالجواب عنه: أن كلام الروم والزنج لا يعلم المراد منه مجملاً ولا مفصلاً، والمتشابه يعلم منه المراد مجملاً، ولأن كل آية فسرها المفسرون على أوجه فمعلوم أن المراد لا يخرج منه، على أنه لم يمتنع أن يكلفنا الله تلاوة أحرف لا نعرف معناها فيثيبنا على تلاوتها، كما يكلفنا أفعالاً لا نعرف وجه الحكمة فيها، فالتلاوة فعل يختص باللسان.
فإن قيل: لم خص الراسخين بأنهم يقولون: آمنا به؟
قيل: لأن معرفة ما للإنسان سبيل إلى معرفته، ومعرفة ما لا سبيل له إلى معرفته، ومعرفة ما لا سبيل له إلى معرفته هي من علوم الراسخين، لأن الحكماء هم الذين يميزون بين ما يمكن علمه وما لا يمكن أن يعلم،