(وَلا تَأكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ): ولا تنفقوها معها. وحقيقته: ولا تضموها إليها في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم؛ قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم اللَّه من مال حلال ـ وهم على ذلك يطمعون فيها؛ كان القبح أبلغ والذم أحق؛....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإعطاء شيء بدله، بل هو طلب شيء ليس عنده وترك ما عنده؛ يدل عليه قوله: "وما أبيح لكم من المكاسب"، فعلى هذا قوله: "إلا أن يكارم صديقاً له" استثناء متصل من قوله: "إنما هو تبديل"، فتقدير الكلام أن يقال: جعل شاة مهزولة مكان سمينة تبديل؛ لأنه أخذ شيء وإعطاء شيء آخر، وليس بتبدل الذي هو ترك شيء بدله، كما سبق، إلا أن يحمل قول السدي على المكارمة، بأن يكون لليتيم شاة سمينة في ذمة صديق الولي، فيأخذ منه عجفاء مكان السمينة مكارمة له؛ فيصح على هذا معنى التبدل. ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله: "مكان سمينة من مال الصبي"، قال الزجاج: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)، معناه: لا تأكلوا مال اليتيم بدلاً من مالكم، وكذلك "لا تأكلوا أيضاً أموالهم إلى أموالكم"، أي: لا تضيفوا أموالهم في الأكل إلى أموالكم.
قوله: (لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى... كان القبح أبلغ والذم أحق)، الانتصاف: طريق البلاغة الترقي بالنهي عن الأدنى تنبيهاً على الأعلى، وها هنا أعلى درجات النهي أن يأكل ماله وهو غني، وأدناها أكلها وهو فقير، فيقال: ما وجه وروده على عكس القانون؟ وجوابه: أن أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته. وفي النهي عن الأعلى فائدة جليلة لا توجد في النهي عن الأدنى؛ فالمنهي عنه متى كان أقبح كانت النفس منه أنفر، والأكل من الغني أقبح، فإذا استبشع المنهي عنه دعاه ذلك إلى الإحجام عنه، وعن أكل ماله مطلقاً. ويحقق هذا تخصيص النهي بالأكل، مع أن وجوه الانتفاع به محرمة؛ فإن العرب كانت تذم الإكثار من الأكل، وتعيب على من جعل ذلك دأبه، بخلاف سائر الملاذ،