وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون، وقال: "أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب"، ثم ضرب الثانية فقال: "أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم"، ثم ضرب الثالثة فقال: "أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمّتي ظاهرة على كلها، فأبشروا"، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا! فنزلت. فإن قلت: كيف قال (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة؛ فقال (بيدك الخير) تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك؛ ولأن كل أفعال اللَّه تعالى من نافع وضارّ صادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لابتيها)، النهاية: اللابة: الحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها: لابات، فإذا كثرت فهي اللاب واللوب، وألفها منقلبة عن واو، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين.
قوله: (لكأن مصباحاً) اللام فيه جواب القسم.
قوله: (قصور الحيرة). النهاية: الحيرة بكسر الحاء: البلد القديم بظهر الكوفة، شبه انضمام بعضها إلى بعض مع بياضها وصغرها بأنياب الكلاب.
قوله: (ولأن كل أفعال الله) إلى قوله: (فهو خير كله)، قال القاضي: ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات، والشر مقضي بالعرض، إذ لا يوجد شر إلا ويتضمن خيراً.
الراغب: أراد بالخير الخير والشر، وسماها خيراً لأنه ليس في العالم شر خالص، كما أن فيه خيراً خالصاً، وذلك أن ما هو شر لكذا هو خير لكذا، فالخير والشر يصدق عليهما الوصف بالخير من هذه الجهة، ولا يصدق عليهما الوصف بالشر، ولو قال: بيده الشر، لم يدخل فيه الخير.


الصفحة التالية
Icon