فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً، فقد تمّ الأمر، أو تحسب أنك تقدر على هداية العمى، ولو انضم إلى العمى -وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأنّ الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمى الذين لا عقول لهم ولا بصائر.
وقوله: (أَفَأَنْتَ... أَفَأَنْتَ) دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبى العقل: حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده.
[(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ٤٤].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجهد البلاء): أي: غاية البلاء.
قوله: ((أفَأَنتَ... أفَأَنتَ): يعني: في تكرير (أفأَنتَ) مع ما فيه من تقديم الفاعل المعنوي، وإيلائه همزة الإنكار: الدلالة على أن نبي الله ﷺ تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم: أنه قادر على الإسماع والهداية، وأنه تعالى يسلب ذلك المعنى منه، ويثبته لنفسه على الاختصاص.
قال القاضي: "في الآية تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المقصود منه، ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مؤوفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق".