لبنا، وأعلاه دَمَاً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، وتبقى الفرث في الكرش. فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل! وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم. (سائِغاً): سهل المرور في الحلق. ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: (سيغاً) بالتشديد. و (سيغاً) بالتخفيف، كهين ولين. فإن قلت: أي فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية لابتداء الغاية؛ لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لـ (نسقيكم)، كقولك: سقيته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، والحاصل في الكبد ينهضم ثانياً ويصير دماً، ثم الدم يدخل في الوردة، وهي العروق النابتة من الكبد، وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضروع عروق، فيصب الدم منها إلى الضرع، وفيه لحمٌ غُدديٌّ رخوٌ أبيضُ، فينقلب الدم فيه إلى اللبن، وذلك تقدير العزيز العليم.
قال القاضي بعد ما ذكر نحواً من هذا: "ومن تدبر صُنع الله في إحداث الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقتٍ على ما يليق به، اضطر إلى الإقرار بكمال حمته وتناهي رحمته، وعلى هذا الأقرب أن يكون (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) حالاً من (لَبَناً خَالِصاً) ولا يكون ظرفاً لغواً.
قوله: (لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء)، رُوي: "مكان" بالرفع. وقيل: "بين": اسمٌ لا ظرف وانتصابه على الحكاية، وليس (أن) بعامل هذا النصب، وإنما هو عاملُ نصبٍ آخر مقدر، والتقدير: لأن محل الفرث والدم مكان الإسقاء، أو أن المتوسط والمتخلل بين الفرث والدم مكان الإسقاء، وفيه نظر، لأنه حينئذ: ظرفٌ لا اسم، والظاهر أن التقدير: أن


الصفحة التالية
Icon