فلما استقروا في الحبشة لم تدعهم قريش وشأنهم، بل أرسلت على إثرهم وفداً إلى النجاشي يتكون من عمرو بن العاص (١) داهية العرب، وعمارة بن الوليد بن المغيرة، وعبدالله بن أبي ربيعة، وأخذوا معهم هدايا للنجاشي، وطلبوا منه أن يرد عليهم المسلمين، ولندع الرواية لأحد الحاضرين في الحبشة آنذاك، يروي لنا الرواية بألفاظها لنرى كيف جلَّى الله الحق من القرآن الكريم على ألسنة عباده المؤمنين، وكيف ردّ الله رسل قريش خائبين.
فهذه أم المؤمنين أم سلمة زوج رسول الله - ﷺ - تروي الحوار الذي دار بين المهاجرين والنجاشي في الحبشة؛ تقول: {ثُمَّ أَرسَلَ إلى أَصْحَابِ رسول اللَّهِ - ﷺ - فَدَعَاهُمْ، فلما جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ما تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إذا جِئْتُمُوهُ؟ قالوا: نَقُولُ والله ما عَلَّمَنَا وما أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنٌ في ذلك ما هو كَائِنٌ، فلما جاءه وقد دَعَا النجاشي أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فقال: ما هذا الدِّينُ الذي فَارَقْتُمْ فيه قَوْمَكُمْ ولم تَدْخُلُوا في ديني وَلاَ في دِينِ أَحَدٍ من هذه الأُمَمِ؟
قالت: فَكَانَ الذي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، فقال له: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كنا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، ونسيء الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ؛ فَكُنَّا على ذلك حتى بَعَثَ الله إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ ما كنا نعبد وَآبَاؤُنَا من دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قالت: فَعَدَّدَ عليه أُمُورَ الإِسْلاَمِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ على ما جاء بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فلم نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً، وَحَرَّمْنَا ما حُرِّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا ما أُحِلَّ لنا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عن دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إلى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ من عِبَادَةِ اللَّهِ، وأن نَسْتَحِلَّ ما كنا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فلما قَهَرُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ على من سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا في جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ.
قالت: فقال له النجاشي: هل مَعَكَ مِمَّا جاء بِهِ عَنِ اللَّهِ من شيء؟
_________
(١) عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم - رضي الله عنه -، صحابي جليل، أسلم قبل الفتح، مات في (٤٣ هـ). انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، (٣/ ١١٨٤) مرجع سابق، وأسد الغابة (٤/ ٢٥٩) مرجع سابق، والإصابة في تمييز الصحابة (٤/ ٦٥٠) مرجع سابق.