المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن الله تعالى لما أرسل رسله عليهم أفضل الصلاة والسلام أيدهم بالبينات والمعجزات الواضحة التي بسببها آمن الناس برسالتهم، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (١).
فموسى - عليه السلام - أرسله الله إلى بني إسرائيل، وأنزل معه التوراة فيها حكم الله، فحكم بها المؤمنون فنالوا بذلك رضوان الله، ثم خلف من بعدهم خلف انحرفوا عن الطريق، وحرفوا الكتاب، وضيعوا الميثاق، فحل بهم غضب الله. قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (٢).
وأرسل الله سبحانه وتعالى عيسى - عليه السلام - إلى بني إسرائيل، وأنزل معه الإنجيل ليحكم بين الناس بالحق، ومؤكداً لصدق رسالة موسى - عليه السلام - المتمثلة في التوراة، فحكم به المؤمنون فنالوا رضوان الله، وحرفه المغالون، وزادوا فيه حتى جعلوا عيسى - عليه السلام - إلهاً مع الله، فحلت بهم النقمة والتفرق والاختلاف، ولم يفارقهم عيسى - عليه السلام - حينما أراد اليهود قتله لكن الله رفعه إلى السماء وقد بشرهم بمجيء الرسول الخاتم محمد - ﷺ - الذي يكشف لهم ما وقع في كتبهم من الخلاف والتحريف، فجاءت بعد ذلك فترة انقطاع للوحي والرسل، فاختلف فيها الناس فيما بينهم، وكثرت النزاعات، وأصبحت البشرية بلا دستور ينظم شؤون حياتها، ويربطها بخالقها؛ لتعود إلى فطرتها التي فطرها الله عليها، فأرسل الله بعد ذلك خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - ﷺ - إلى الناس كافة، وأنزل معه القرآن الكريم ليبين لهم الذي اختلفوا فيه، وليكشف لهم حقيقة الاختلاف والتحريف الذي اُرتكب في كتبهم من قبل أحبارهم ورهبانهم، ويبين لهم ما أخفوه من الآيات والأحكام، ليجتمع الناس بذلك على كلمة سواء في
_________
(١) سورة الحديد الآية: (٢٥).
(٢) سورة الأعراف الآية: (١٦٩).