بحيث يكون غائبًا عن شَخْصٍ غيرَ غائبٍ عن آخَرَ، والمراد كلاهما؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ ما غاب عن الخَلْقِ غَيْبًا مُطْلقًا بحيث لا يَعْلَمُه أحدٌ، وما غاب عنهما غيبًا نسبيًّا؛ فمثلًا الآن الذي في الشَّارِعِ غائِبٌ عنَّا لا نعلمه، لكنَّ الذين هناك يَعْلَمُونه، وما هنا نحن نَعْلَمُه، وهم لا يَعْلَمُونه؛ فهذا الغَيْبُ النِّسْبيُّ؛ أما عِلْمُ المستَقْبَلِ، وما يكون مِمَّا لم يُخْبِرْنا الله به، فإنه غَيْبٌ مُطْلَقٌ.
وقوله عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾ الشَّهادة يقول رَحِمَهُ الله إنَّها الحُضُورُ؛ لأنَّ (شَهِدَ) بمعنى حضر وبمعنى أخبر؛ فلها معانٍ، فهنا المرادُ بالشَّهادةِ الحاضِرُ، فهو يَعْلَمُ الغائِبَ والحاضِرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقوله رَحِمَهُ الله: [﴿الْعَزِيزُ﴾ المَنيعُ في مُلْكِهِ ﴿الرَّحِيمُ﴾ بأَهْلِ طاعَتِهِ] ﴿الْعَزِيزُ﴾ فسَّرَه المُفَسِّر بأنه [المنيعُ في مُلْكِهِ] ودائمًا يمر علينا في تفسيرِ المُفَسِّر نفسه فيقول: العزيزُ بمعنى الغالِب، وقد سبق لنا: أنَّ العزيزَ هو منِ اتَّصَفَ بالعِزَّة، وأنَّ العِزَّةَ ثلاثَةُ معانٍ: عِزَّةُ القَدْرِ، وعِزَّةُ القَهْرِ، وعِزَّةُ الإمتناعِ.
فإذا قُلْتَ: هذا الشَّيءُ عزيزٌ؛ بمعنى أنه ذو قَدْرٍ، كما يقول قائِلٌ لأخيه: أنت عزيزٌ عندي؛ يعني: لك قَدْرٌ عندي ومَنْزِلَةٌ، وعزيزُ القَهْرِ؛ كما يُقال: ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: ٣] يعني: تَقْهَرُ به الأَعْداءَ. والثَّالث: عِزَّة الإمْتِناعِ، وهذا كما يُقال في الأشياء النَّادِرَة: هذا عزيزٌ، وكما في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إبراهيم: ٢٠] أي: بمُمْتَنِعٍ.
فمعنى الإمتناع باعتبارِ كوْنِهِ صفةً لله: أنه يَمْتَنِعُ أن يناله نَقْصٌ في ذاتِهِ أو صِفاتِهِ؛ ولهذا يقول المُفَسِّر هنا [المنيعُ في مُلْكِه] فلا يَلْحَقُه نقصٌ لا في ذاتِهِ ولا في صفاتِهِ.