وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ في الزُّمَر، فكيف نَجْمَعُ بين هذه الآيات الثَّلاثِ؟
الجوابُ: جمع أهل العلم بينهُنَّ: بأنَّ قولَه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ﴾ هذا هو الأَصْلُ، أما المتوفِّي هو الله لأنَّه المُدَبِّرُ، المدبِّرُ للشيء، والمدبِّرُ للشيء فاعلٌ له؛ كما تقول: بنى المَلِكُ قصرًا للحُكْم؛ فهل يعني ذهب وجاء بالزنبيل وجاء بالفاروعِ، وجاء بالمِسْحَاة، وجاء بالماءِ وجَهَّز الطينَ وحمل على مَتْنِه ليبنِيَ؟
الجوابُ: ليس المعنى كذلك؛ إذن معنى بناه؛ أي: أَمَرَ ببنائِهِ، لكنْ لما كان هذا البناءُ لا يتِمُّ إلا بأَمْرِه أُسْنِدَ إليه؛ فالله تعالى يتوفَّى الأَنْفُسَ فلا يكون تَوَفِّيها إلا بأمره، فأُسْنِدَتِ الوفاةُ إليه.
أما قوله تعالى: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ وقوله تعالى: ﴿يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ فإمَّا أن يقال: إنَّ مَلَكَ الموت هنا مفردٌ مضاف، وهذا له وَجْهٌ في اللُّغَة العربِيَّة، لكن ليس بصحيحٍ من ناحِيَة الواقِعِ، ولكنَّ الواقِعَ أن مَلَكَ الموتِ له أعوانٌ، له أعوانٌ قَبْل قَبْضِ الرُّوح، وأعوانٌ بَعْد قَبْضِ الرُّوح؛ فالأعوانُ قبل القَبْضِ يسوقونَ الرُّوحَ من البَدَن حتى تَصِلَ إلى الحُلْقُومِ ثم يَقْبِضُها، وأعوانٌ بعد ذلك إذا قبضها فهناك ملائِكَةُ الرَّحمة تنتظِرُ هذه الرُّوحَ بالكَفَنِ الذي من الجَنَّة فلا يَدَعُونَها في يده طَرْفَةَ عين حتى يَقْبِضوها ويَجْعَلوها في ذلك الكفَنِ، وإن كان الإنسانُ بالعَكْس - والعياذ بالله - فيكون عنده ملائِكَةُ العذابِ، معهم كفنٌ من نار لا يَدَعُونها في يده طَرْفَةَ عينٍ.
فيكون هنا المرادُ: الجمع بينهما: أنَّ إسنادَ الوفاة إلى الرُّسُل إلى الملائكة وهم جَمْعٌ؛ لأنَّهُم أعوانُ مَلَكِ الموتِ، فكان لهم نَوْعُ مُشارَكَةٍ في هذا الفعل، ومَلَكُ الموت هو الذي يقبضها إذا بلغت الحُلْقُومَ، وبهذا الجَمْعِ يزول الإشكالُ.


الصفحة التالية
Icon