يجعلها تُسَارِع إلى معرفة المراد؛ فإن من قَرَع سمعَه قولُه تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (البقرة: ١١٠)، يفهم معناه دون أن يعرف أن «ما» كلمة شرط، و «تُقَدِّمُوا» مجزوم بها لأنه شرطها، و «تجدوه» مجزوم بها لأنه جزاؤها، ومثلها كثير.
ثم إنك ترى العامة يستفتون العالم ويفهمون كلامه وجوابه، وهو كلام غير مُعْرَب في الأغلب، بل تراهم يسمعون القرآن، فيفهمون معناه، ويبكون لقوارعه وما حواه، ولا يعرفون إعرابًا، ولا غيره، بل ربما كان موقع ما يسمعونه في قلوبهم أعظم من موقعه في قلوب من حقّق قواعد الاجتهاد، وبلغ الذكاء والانتقاد، ثم إن هؤلاء العامة يحضرون الخُطَب في الجُمَع والأعياد، ويذوقون الوعظ ويفهمونه، ويُفَتِّت منهم الأكباد، وتدمع منهم العيون، فيكثر منهم البكاء والنَّحِيب، ثم إنك تراهم يقرؤون كتبًا مُؤَلَّفة من الفروع الفقهية ويفهمون ما فيها، ويعرفون معناها، ويعتمدون عليها، ويرجعون في الفتوى والخصومات إليها.
فيا ليت شعري! ما الذي خص الكتاب والسنة بالمنع من معرفة معانيها، وفَهْم تراكيبها ومبانيها، والإعراض عن استخراج ما فيها، حتى جُعِلَت معانيها كالمقصورات في الخيام، قد ضُرِبَت دونها السُّجُوف (١)، ولم يبق لنا إليها إلا ترديد ألفاظها والحروف، وأن استنباط معانيها قد صار حِجْرًا محجورَا، وحَرَمًا مُحَرَّمًا محصورَا؟ ! » اهـ (٢).
قال الشنقيطي - رحمه الله -: «اعلم أَنَّ قول بعض مُتأخِّري الأُصوليِّين:
إِنَّ تَدبُّر هذا القرآن العظيم، وتفهُّمَهُ والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصةً | قَولٌ لا مُسْتَنَد له من دليل شرعيٍّ أصلًا. |
(١) أي: السُّتُور.
(٢) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (١/ ٣٦ ضمن الرسائل المنيرية).