قال ابن القيم - رحمه الله -: «وتَأَمَّل كيف افْتَتَح الآية بقوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾، والتنزيل يَسْتَلْزِم عُلُوَّ المُنَزَّل من عنده؛ لا تَعْقِل العرب من لغتها -بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة- إلا ذلك.
وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه، فهذا يدل على شيئين:
أحدهما: عُلُوّه تعالى على خلقه.
والثاني: أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره.
فإنه أخبر أنه منه، وهذا يقتضي أن يكون منه قولًا، كما أنه منه تنزيلًا. فإن غيره لو كان هو المتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير، فإن الكلام إنما يُضَاف إلى المُتَكَلِّم به، ومثل هذا: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ (السجدة: ١٣)، ومثله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ (النحل: ١٠٢)، ومثله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: ٤٢)، فاسْتَمْسِك بحرف (مِن) في هذه المواضع، فإنه يقطع حُجَج شَغْب المعتزلة والجهمية.
وتأمل كيف قال: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ﴾، ولم يقل: (تنزيله)، فتضمنت الآية إثبات علوه، وكلامه، وثبوت الرسالة.
ثم قال: ﴿الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت: ٢)، فتضمن هذان الاسمان صِفَتَي القُدرة والعلم وخلق أعمال العباد وحُدُوث كل ما سوى الله؛ لأن القَدَر هو قُدرة الله؛ كما قال أحمد بن حنبل؛ فتضمنت إثبات القدر؛ ولأن عزته تمنع أن يكون في مُلْكِه ما لا يشاؤه، أو أن يشاء ما لا يكون؛ فكمال عزته تُبْطِل ذلك.
وكذلك كمال قدرته تُوجب أن يكون خالق كل شيء، وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه؛ لأن كمال قدرته وعزته يُبْطِل ذلك.


الصفحة التالية
Icon