فهذا هو المُتَحَقِّق بـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾ حقًا، القائم بهما صدقًا، مَلْبَسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا، لا تملكه إشارة، ولايتعبده قَيْد، ولا يستولي عليه رَسْم، حُرٌّ مُجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يَدِين بدين الآمر أَنَّى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مَضَارِبه، يَأْنَس به كل مُحِقّ، ويستوحش منه كل مُبْطِل؛ كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغِلْظَة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انْتُهِكَت محارم الله.
فهو لله وبالله ومع الله، قد صَحِب الله بلا خَلْق، وصَحِب الناس بلا نَفْس. بل إذا كان مع الله عَزَل الخلائق عن البَيْن وتَخلَّى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتَخَلَّى عنها، فواهًا له! ما أغربه بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أُنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه» (١).
٢ - قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (الانفطار).
قال ابن القيم - رحمه الله -: «لا تظن أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾، مختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دُورِهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دُورِهم الثلاثة، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بِرّ القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب - تبارك وتعالى - ومحبته، والعمل على موافقته» (٢).
_________
(١) مدارج السالكين (١/ ١١١).
(٢) الجواب الكافي (ص ١٢١).