لأنه-عز وجل-: «قضى» أي: حكم ألا يعبد سواه، وما قضاه لا مخالف له، فما عبد في الوجود إلا هو وهذه الأشياء قد عبدت، فوجب أن تكون هي إياه، وما ذلك إلا لسريانه بذاته في العالم أو كونه عين العالم.
ورد عليه بأن الغلط إنما وقع من جهة اشتراك اللفظ، وإنما معنى قضى أمر، ولا يلزم من الأمر الطاعة، فهو أمرهم ألا يعبدوا إلا إياه، فخالفوه، وعبدوا سواه.
﴿*وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً﴾ (٢٣) [الإسراء: ٢٣] هذا هو المثال المشهور في مفهوم الموافقة، وهو ما استفيد من غير محل النطق أقوى من المنطوق، فالمنطوق هنا تحريم التأفيف، والمفهوم تحريم الضرب، وهو أقوى من المنطوق بمعنى أن التحريم فيه أولى من تحريم التأفيف، يدرك ذلك بالضرورة.
واختلف فيه، أهو قياس، أم لا؟ فقال قوم: هو قياس جلي، ونظمه: إن ضرب الوالدين أذى لهما فكان حراما كالتأفيف لهما وأولى، وأركان القياس موجودة الأصل والفرع والعلة والحكم.
وقال آخرون: ليس بقياس، وإنما هو مدلول لفظي، لتفاهم العرب له مع عدم معرفتهم بالقياس، ولأن ذلك يفهمه من لا يتصور القياس، ولا يخطر له ببال، ويحتمل أن يقال:
المنطوق في [مثل] هذا أعم، أو كالأعم من المفهوم. فالنهي عنه من باب نفي الأعم المستلزم نفي الأخص، وهذا من باب الدلالة العقلية لا اللفظية.
﴿وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً﴾ (٢٤) [الإسراء: ٢٤] هذا مجاز [تشبيها للولد] في ذلك بطائر خفض جناحه لأفراخه يظلهم به، وكذا ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (٨٨) [الحجر: ٨٨]، ولما قال أبو تمام الطائي في قصيدته المشهورة:
لا تسقني ماء الملام فإنني … صب قد استعذبت ماء بكائي
أنكرت عليه هذه الاستعارة، ولم تستحسن منه، فأرسل إليه العتابي غلاما له، ومعه قارورة وقال له: قل له: احتجنا إلى شيء من ماء الملام فابعث به إلينا في هذه القارورة، فعلم أبو تمام أنه منكر عليه، متهكم مستهزئ به فقال للغلام: ارجع إلى مولاك فقل له:
يرسل إليّ بريشة من جناح الذل، أخرجه له بها، فكان في ذلك مناظرة بالكناية شبيهة