وقد استشعرالبيضاوي كل هذه المعاني فراح يمرض حمل المعنى على الديمومة ويتورك على القائلين به، ويقدم عليه ما يفيد الحمل على الحقيقة، يقول: قوله (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) :"على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة (١)، وقيل المراد دوام الرزق ودروره" (٢)
والعجيب أن يستنكر ابنُ منظور على من يذهب إلى إطلاق (العِشاء) على فترة ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر ولا ينكر بنفس القدر على من ذهب إلى أن العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح، مكتفياً في ذلك بلفظ التضعيف، إذ يقول: "وقيل العشي من زوال الشمس إلى الصباح، ويقال لما بين المغرب والعتمة: عِشاء وزعم قوم أن العِشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر وأنشد في ذلك:
غدونا غدوة سحراً بليلٍ عِشاءً بعد ما انتصف النهار" (٣).
على الرغم من أن قول الشاعر: (بعد ما انتصف النهار) يفيد اقتراب ما بعد منتصف النهار إلى وقت العِشاء، فيكون الحمل على المجاز لعلاقة المجاورة مستساغاً لقرب المسافة الزمنية.. وليس من هذا في شيئ القول بأن العَشيّ هو ما يمتد وقته ليتسع لما بين زوال الشمس إلى صباح اليوم التالي.. والأعجب منه أن يورد في ذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قوله:
هيفاءُ عجزاءُ خريدٌ بالعشيّ تضحك عن ذي أشرٍ عذْبٍ نقي

(١) وكان العرب يسمون الأكل مرة واحدة في اليوم والليلة (الوجبة) باعتبار أن أكلها يوجب زهادة، وكان إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك ويسمون ماعداهما (الرغبة) أي في كثرة الأكل، فأخبرهم سبحانه أن لهم في الجنة هذه الحالة التي تعجبهم [ينظر أضواء على متشابهات القرآن للشيخ خليل ياسين ٢/١٠].
(٢) تفسير البيضاوي ٦/٢٩٢.
(٣) اللسان٤/٢٩٦٢.


الصفحة التالية
Icon