ولا يبعد أن يكون حال زكريا - عليه السلام - مع مناوئيه من اليهود شبيهاً بحال أولئك الصحب الكرام مع كفار مكة، فيكون في هذا أيضا الوجه في البدء بالعشيّ، بل إن هذا ما ينبئ به طبيعة هؤلاء القوم الذين تخصصوا في الإيذاء وفي قتل الأبرياء والأنبياء بغير حق، ففي تفسير ما أخبر الله به عن قتلهم أنبياء الله ذكر أهل العلم نصوصاً تصرح بقتل سيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام على يد أولئك الأنجاس، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في قوله: "ومن تلاعب الشيطان بهم ما كان في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنحاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه" (١)، كما حكى عنهم في موضع آخر أنهم "هم قتلة الأنبياء، قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الأنبياء حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً في أول النهار وأقاموا سوق بقلهم آخره، كأنهم لم يصنعوا شيئاً" (٢). الأمر الذي يعكس مدى الهلع والخوف الذي كان ينتاب أهل الحق في تلك الأزمنة الغابرة، ويعكس بالتالي سر البدء بالعشي في آية آل عمران.
ومما قيل في سر تقديم (العشيّ) مراعاً فيه السياق ما ذكره البقاعي في حق آية غافر سالفة الذكر من أنه "لما كان المقام لإثبات قيام الساعة (٣) وكان العشيّ أدل عليها قدمه" (٤).
(٢) هداية الحيارى ص٥٤ وينظر تفسير ابن كثير ١/١٠٢، ٣٥٥.
(٣) يعني قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وإذ يتحاجون في النار.. إلى آخر الآيات ٤٦-٥١).
(٤) نظم الدرر ٦/٥٢٥.