وعلى نحو ما جاء الترتيب في تقديم العشيّ في حال الاستضعاف والخوف - أعني على الوجه الذي تراءى لنا- متناغماً مع سياق الآيات التي قدمت فيها ومع نظمها.. يجيىء الترتيب كذلك في تقديم المقابل للعشيّ عندما يُزال ذلك ويُستشعر بدلاً عنه معاني الأمن والقوة، والأمان والكثرة. ولعلك تجد صدى هذا في حديث القرآن عن أهل الجنة وتحديداً في قوله سبحانه عنهم: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/٦٢)، وفي حديثه عما كان من أمر زكريا عليه السلام عندما (خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم/١١)، وفي حديثه عن أهل الإيمان بعد أن مكّن الله لهم وذلك في قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلا.. الأحزاب/٤١، ٤٢).
فقد أضحى الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة في مأمن من عناء الدنيا ومن عذاب جهنم (لايسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. الأنبياء/١٠٢، ١٠٣)، وأضحى زكريا عليه السلام في مأمن عن أعين الرقباء والأعداء، وفي منعة من قومه الذين "كانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخله ويصلوا" (١)، كما تغير حال المؤمنين في المدينة بعد أن تهيىء لهم المجتمع الآمن المستقر، وبعد أن أذهب الله عنهم ما كان بهم من ضعف وصاروا ذوي بأس شديد ومنعة، ويمكن لك أن تستكنه هذه المعاني وتستشعر أنفة العظمة والعزة التي انخلعت على الصحب الكرام، وأنت تقارن ما جاء في آية الأحزاب بما جاء في قوله سبحانه عنهم: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس.. الأنفال/٢٦).