للإنسان ومن بعد، إنه إنسان بنفخة من روح الله... فعقيدة المؤمن هي وطنه وهي قومه وهي أهله، ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه، ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم... ومحمد عليهم الصلاة والسلام ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: ٥٢].
هذا الموكب الكريم... يواجه مواقف متشابهة وأزمات متشابهة... وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]... إن الوجود ليس متروكًا لقوانين آلية صماء عمياء، فهناك دائمًا وراء السُّنن الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة، والله يخلق ما يشاء ويختار، كذلك تعلمت أن يد الله تعمل ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة، وأنه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئًا... فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل ومن ثم لم يكن متعسفًا ولا عجولًا في تحقيق غاياته... كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن... فأما الإسلام فيسير هينًا لينًا مع الفطرة يدفعها من هنا ولردعها من هناك ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطِّمها، إنه يصبر عليها عبر العرف البصير الواثق من الغاية المرسومة، والذي لا يتم في الجولة الأولى يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو الألف...
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعًا ولا موضوع اختيار إنما هو الإيمان أو فلا إيمان... ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾. ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: ١٨ - ١٩].