إلى حقيقة هذا الدين إنه وحدة لا تتجزأ... تنظيماته الاجتماعية وقواعده التشريعية، وشعائره التعبدية... كلها منبثقة من العقيدة فيه، وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة، وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله، وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة: عبادة الله الواحد، الله الذي خلق ورزق واستخلف الناس في هذا الملك خلافة مشروطة بشرط أن يؤمنوا به وحده، وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده، وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده) (١).
ثم يقول عند تفسير الآية الأولى (وهذه الشريعة التي تبينها الآية أنه عند القصاص للقتلى -في حالة العمد يقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨] (وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلًا من قتل الجاني، ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة، ولجب على القاتل أو وليه أو يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال، تحقيقًا لصفاء القلوب وشفاء لجراح النفوس وتقوية لأواصر الإخوة بين البقية الأحياء.
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الديّة هذه بما فيها من تخفيف ورحمة ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] ولم يكن هذا التشريع مباحًا لبني إسرائيل في التوراة، إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التواصي والصفاء. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٤]... وفوق العذاب الذي يتوعد به في الآخرة يتعين قتله ولا تقبل منه الدية، لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول نكث للعهد وإهدار للتراضي وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الديّة فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويتعدى.
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام، وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع... أن الغضب للدم فطرة وطبيعة.