فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص، فالعدل الحازم هو الذي يكسر شِرَّة النفوس، ويفتأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ويفتح له الطريق ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي إلى حدود التطوع، لا فرضًا يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق.
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقًا... والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس، وأن لكل منهما مجالًا غير مجال الأخرى، وأن آية النفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، أو من أفراد معينين على فرد، أو أفراد معينين كذلك، فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدًا... فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي -كحالة ذينك الحيين من العرب- حيث تعدى أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة، فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء، فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، وإلا فكيف القصاص يكون في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة.
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ولا تعارض في آيات القصاص (١).
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ [البقرة: ١٧٣] (فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم... والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل، ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة

(١) (١/ ١٦٥) قلت وكلام المفسر غير دقيق ونظر غير مسلم فليس هناك مجال لحصر مدلول الآية في مجال الاعتداء الجماعي ولم يقل أحد من الأئمة بهذا الفرق بل صرح كثيرون بعكس ذلك من أن الجماعة تقتل بالواحد، ثم إن قوله تعالى (فمن عُفي له من أخيه شيء) يأبى حصر الآية.


الصفحة التالية
Icon