ومع أن الرجل لم يقحم نفسه في اختلافات الفقهاء وتشعب المفسرين إلا أننا نجده يدلي بدلوه لا انتصارًا لمذهب على مذهب أو قول، وإنما لتجلية النص القرآني حيال الآراء المختلفة. ونعتقد أن مثل هذا اللون من الترجيح قد يكون ضروريًا في بعض الحالات؛ وذلك إذا أريد للنص القرآني أن يحمل فوق ما يحمل، أو أن يخرج به عن مدلوله إلى ساحات التكلف والغرابة.
نستمع إليه وهو يفسر آية القتل في سورة النساء فيقول عند قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢].
والحالة الثالثة أن يقع القتل على مؤمن من قوم معاهدين -عهد هدنة أو عهد ذمة- ولم ينص على كون المقتول مؤمنًا في هذه الحالة، مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه، ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله -المعاهدين- ولو لم يكن مؤمنًا؛ لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين، ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمنين. ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢] ثم بيان للحالات الممنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنًا، وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [النساء: ٩٢]. فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو، ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة. مما يوحي بأن القتيل مؤمن، فأعتقت رقبة تعويضًا عنه، وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقًا دون شرط الإيمان.
وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وَدَى بعض القتلى من المعاهدين، ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم، مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة، هو الدية وأن هذا ثبت بعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بهذه الآية... ) (١).