كتب المتأخرين، اتفق المتفقهة الجامدون والمتصوفة الجاهلون، وأذعن أولئك إلى هؤلاء واعترفوا لهم بالسر والكرامة، وسلموا لهم بما يخالف الشرع والعقل، على أنه من علم الحقيقة. فصرت ترى العالم، الذي قرأ الكتاب والسنة والفقه يأخذ العهد من رجل أمي، ويرى أنه يوصله إلى الله تعالى! ! فإن كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما فهم الأئمة واستنبط الفقهاء منهما، كل ذلك لا يفيد معرفة الله تعالى المعبر عنها بالوصول إليه، فلماذا شرع الله هذا الدين والناس أغنياء عنه بأمثال هؤلاء الأميين وأشباه الأميين؟ ! (١).
هكذا فهم الأستاذ الإمام التصوف، وهكذا أفاد منه وجمع بينه وبين مذهب السلف، فكان جامعًا بين خيرين ينطلقان من معين واحد.
٣ - مدرسة المعتزلة:
لقد كان للمعتزلة أثر لا يُنكر في تاريخ الفكر الإسلامي بخاصة والإنساني بعامة، وفي نمو هذا الفكر كذلك. والمعتزلة هي الفرقة التي كانت نشأتها دينية لا تشوبها شوائب السياسة. ولقد ازدهرت فكرة الاعتزال بسبب تأييد بعض الخلفاء، وكان لهذا التأييد رد فعل سيء فيما بعد، ومن المرجح أن خصوم المعتزلة قد لعبوا دورًا غير يسير في تشويه آرائهم وأفكارهم، إلا أن مما لا مرية فيه، أن العقل كان الحكم الأول عند هؤلاء، وليس معنى هذا أنهم تنكروا للنص تنكرًا كليا وكان لهذا أثرٌ سيء على الدين، مع أن لهم مواقف دفاعية من الظلم أن ينكرها المنكرون، وإن كان من مأخذ فإنما هو تفخيم سلطة العقل، وتوسيع دائرة حكمه، حتى حافوا به على النص. وعلى كل حال فلقد حوصرت أفكار الاعتزال، وضيق عليها الخناق، حتى تلاشت أو كادت وبقيت كذلك إلى أن جاء الأستاذ الإمام، فانتزع سلالتها ليبثها في آرائه التفسيرية، واستل نزعتها ليقدمها إلى قرائه ومستمعيه آراء علمية بثوب جديد.