واستدل الفقهاء بهذه الآية وجعلوها دليلًا على أن الاستثناء من الاستثناء جائز، وبنوا عليها مسائل وأحكامًا لا يليق ذكرها هنا، منها: لو قال: لفلان عليَّ عشرةٌ إلا خمسةً إلا أربعةً إلا ثلاثةً، فالخمسةُ مستثنى من العشرة، والأربعة مستثنَى من الخمسة الثانية مضاف إلى الخمسة الأولى. والثلاثة مستثنى من التسعة، فالواجب عليه إذن سِتَّةٌ، وأَصل هذا أن يكون المستثنى نقصانًا من الأول، والاستثناء زيادة على الأول، لأن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فإن قال بعد قوله: إلا ثلاثة: إلا اثنين، زدت على الستة، وأوجبتها عليه ثمانية، فاعرفه (١).
وقوله: ﴿قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ قرئ: (قدرنا) مشددًا ومخففًا (٢)، وهما لغتان بمعنىً، غير أن في التشديد معنى المبالغة.
واختلف في مفعول ﴿قَدَّرْنَا﴾ فقيل - وهو الوجه -: هو (إنَّ) وما اتصل بها، وإنما كسرت لأجل اللام في خبرها، كقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ (٣) وقيل: محذوف، والتقدير: قدرنا بقاءها من المهلكين، فحذف، وما بعده تفسير له. وقيل: المعنى: قضينا عليها الهلاك، ثم ابتدأ فقال: ﴿إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: من الباقين مع من يبقى في الهلاك.
﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨)﴾:
قوله عز وجل: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾ (ذلك) مفعول (قضينا) وعُدّي بإلى لأنه ضُمِّن معنى أوحَينا، وفي ﴿الْأَمْرَ﴾ ثلاثة أوجه - أحدها:

(١) انظر مثل هذا أيضًا في إعراب النحاس ٢/ ١٩٩. وجامع القرطبي ١٠/ ٣٧.
(٢) الجمهور على (قدَّرنا) بالتشديد، غير عاصم في رواية أبي بكر قرأ: (قَدَرنا) مخففة. انظر السبعة / ٣٦٧/. والحجة ٥/ ٤٨. والمبسوط / ٢٦٠/. والتذكرة ٢/ ٣٩٦.
(٣) سورة الصافات، الآية: ١٥٨.


الصفحة التالية
Icon