وليس الأمر كما زعم هنا، بل النصب هنا أقوى من الرفع لدلالته على عموم المخلوقات، والرفع لا يدل على عمومها، ولكن يدل على أن كل شيء [مخلوق] فهو بقدر. بيان ذلك أنك إذا قلت: إنا كلَّ شيء خلقناه، على تقدير: إنا خلقنا كل شيء خلقناه، اشتمل الخلق على جميع الأشياء البتة، كما أنك إذا قلت: خلقنا كلَّ شيء بقدر، كان كذلك، وإذا قلت: إنا كلُّ شيء خلقناه بقدر بالرفع لم يكن متمحضًا للعموم، لأنه يجوز أن يظن أن ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾ في قوله: (كلُّ شيءٍ)، حتى كأنه قيل: إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر، أي كائن بقدر، فيجوز أن يكون هنا ما ليس بمخلوق من الأشياء، كما أنك إذا قلت: كلُّ ظريف ضربته في الدار، جاز أن يظن أن (ضربته) صفة لظريف، وأن (في الدار) خبره، حتى كأنك قلت: كلُّ ظريف مضروب مستقر في الدار، فيجوز أن يكون هنا ظرفاء لم تضربهم، وهم الذين ليسوا في الدار. فقوله تعالى: (كلُّ شيءٍ) بمنزلة (كل ظريف)، و ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ بمنزلة ضربته، و ﴿بِقَدَرٍ﴾ مهو بمنزلة (في الدار)، فكما يحتمل قولك: كل ظريف ضربته في الدار، أن جماعة من الظرفاء ضربتهم، وهم المشتمل عليهم الدار فقط، كذلك يحتمل قوله: (كلُّ شيء خلقناه بقدر) إذا رفع كلُّ شيء مخلوقٍ كائن بقدر، فيجوز أن يكون هنا ما ليس بمخلوق في الأشياء، وإذا نصبت لم يحتمل إلا العموم، ألا ترى أنك إذا قلت: كلَّ ظريف ضربته في الدار بالنصب على تقدير الإضمار كان بمنزلة أن تقول؛ ضربت في الدار كلَّ ظريف، وهذا يفيد أن الضرب قد عم جميع الظرفاء، إلا أنه على صفة مخصوصة، وهي إن كان في الدار دون غيرها من الأماكن، وكذا يكون التقدير: في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أن الخلق قد عم جميع الأشياء على صفة وهي إن كان بقدر، فيكون الباء في ﴿بِقَدَرٍ﴾ متعلقًا بـ ﴿خَلَقْنَاهُ﴾، ولا يكون فيه إضمار نحو: كائن، وكذا لا يكون في الدار في قولك: كلَّ ظريف ضربته في الدار متعلقًا بضربته دون استقر، كما أنك إذا قلت: ضربت في الدار كل ظريف، كان كذلك، ففي النصب فائدة عظيمة لم