ثم قال: (فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربَّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذين لا يُقْبَل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذِبهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وكذلك قوله: ﴿قَالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ - فيه تأويلان:
التأويل الأول: قاله ابن عباس: (قالوا إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب).
التأويل الثاني: قال مجاهد: (قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون (١)).
قلت: والفساد في اللغة خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعًا به، والمفسَدَة ضد المصلحة، قال الراغب: (تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض).
وقال القاشاني: (كانوا يَرَوْن الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا -لأنفسهم خاصة- لتوغّلهم في محبة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية) ذكره القاسمي.
فأجابهم سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
﴿هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ مبتدأ وخبر، وهما معًا في محل رفع خبر إن. وقد تكون هم فاصلة و ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ خبر إن، والتقدير: ألا إنهم المفسدون. والمعنى كما قال ابن جرير: (ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حُدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين).

(١) اسم فاعل من أصلح. يقال صَلَح الشيء وصَلُح. والصلاح: ضد الفساد. والصُّلوح مصدر صَلُح.


الصفحة التالية
Icon