التأويل الأول: عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة: (لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، الآيات الثلاث- قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾).
التأويل الثاني: عن الرّبيع بن أنس قال: (هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتَتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلؤوا من الدنيا رِيًّا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]).
وفي رواية عنه قال: (فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلؤوا من الدنيا رِيًّا أخذهم الله فأهلكهم).
التأويل الثالث: عن قتادة قال: (أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قلّ منه أو كثر. إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: (﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾). وفي رواية: (لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾). قال: (البعوضة أضعف ما خلق الله).
واختار ابن جرير قول ابن مسعود وابن عباس وهو التأويل الأول فيما ذكرناه، وتابعه في ذلك الحافظ ابن كثير فقال: (وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلًا ما).
وذهب بعض أهل اللغة أن (ما) هنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل (واختاره ابن كثير). في حين اختار آخرون منهم (ابن جرير) أن (ما) موصولة وبعوضة معربة بإعرابها. وقيل بل ﴿بَعُوضَةً﴾ منصوبة بحذف الجار، والتقدير: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. (اختاره الفراء).
وإنما المعنى كما قال مجاهد: (﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً﴾، يعني الأمثال صغيرها