[إياكم وكثرةَ الحديثِ عني. فَمَنْ قال عليَّ فليقل حقًّا أو صِدْقًا. ومن تقوَّلَ عليَّ ما لم أقُلْ، فَلْيَتبَوّأ مَقْعَدَهُ من النار] (١).
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (أدركت في هذا المسجد -مسجد رسول الله - ﷺ - مئة وعشرين من أصحاب رسول الله - ﷺ -، ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا ودّ أن أخاه كفاه ذلك).
وفي لفظ آخر: (كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى ترجع إلى الذي سئل عنها أول مرة).
ومثل هذا كثير في حياة الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. قال القرطبي رحمه الله: (وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبد البَرّ: من بركة العلم وآدابه الإنصافُ فيه، ومن لم يُنصف لم يفهم ولم يتفهّم. روى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف. قلت (٢): هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فينا الفساد وكثر فيه الطَّغام! وطُلِب فيه العلم للرياسة لا للدّراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمِراء والجدال الذي يُقْسِي القلب ويُورث الضِّغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى (٣).
قلت: فإن كان هذا في زمن القرطبي المتوفى (٦٧١ هـ) فكيف في زماننا اليوم بعد سبعة قرون من زمانه وبعد أربعة عشر قرنًا من زمان النبي - ﷺ -، وقد أظلتنا فتن تجعل والله الحليم حيرانَ، وقد صرنا إلى الزمن الذي أخبر عنه المصطفى - ﷺ - بأنه يصبح الرجل فيه مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. وقد جاءني قبل ساعة من الآن رجل يسأل عن فتيا يشير واقعها إلى الحال الذي وصل إليه المسلمون في زماننا هذا، فهو يقول: إن زوجته يعتريها أوقات تتغير فيه وتضرب نفسها وتكاد تمزق ما حولها -فيما يبدو أنه مسّ من الجن- وتطلب منه الطلاق ولا تهدأ إلا إذا لفظ به، فهي تهدده بحالة مذعرة يخشى من عاقبتها كما يخشى من مقدّمها -مهرها- الكبير الذي كتبه على نفسه ولا يستطيعه إن حاكمته إلى القاضي،

(١) حديث حسن. انظر صحيح ابن ماجة (٣٣)، باب التغليظ وتعمد الكذب على رسول الله - ﷺ -.
(٢) القائل هو القرطبي.
(٣) انظر تفصيل وتمام ذلك في تفسير القرطبي (ج ١) ص (٢٨٦).


الصفحة التالية