كان من قبل يُعمل به ثمَّ تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثمَّ ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئًا فقد انتسخه، يقال: انتسخت الشمس الظلَّ، والشيبُ الشباب. وتناسخُ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخُ الأزمنة والقرون.
الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢] أي: يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله.
وقوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
أي: من نسخ الأحكام وتبديلها واختيار أنفع منها وما هو أخف على العباد.
وقوله قعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٠٧].
يرشد سبحانه عباده بهذا إلى أنَّه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الأمر والإرادة، فكما أنَّه تعالى يخلق ما يشاء، ويُسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويُصِحّ من يشاء، ويُمرِض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويَخْذُلُ من يشاء، فكذلك فإنَّه سبحانه يحكم في عباده بما يشاء، فيحلّ ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
والآية ردّ على اليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وقد وقع النسخ في الكتب المتقدمة والشرائع الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرّم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثمَّ نسخ حِلَّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحًا لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها.
وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثمَّ نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عَبَدَ العجل منهم، ثم رَفَعَ عنهم القتل، كيلا يستأصلهم القتل. وفي القرآن من النسخ ما اتفقت عليه كلمة أهل العلم: كنسخ العدة بالحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكذلك أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وكذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، وكذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول - ﷺ - وغير ذلك من الأمور.