والحديث السابق أورده البخاري في صحيحه ضمن حديث طويل عن أسامة بن زيد وفيه: [وكان النبي - ﷺ - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا...﴾ الآية. [آل عمران: ١٨٦]، وقال الله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ إلى آخر الآية، وكان النبي - ﷺ - يتأول العَفْو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله - ﷺ - بدرًا فقتل الله به صناديدَ كفار قريش قال ابنُ أُبيٍّ ابنُ سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه..] (١). أي ظهر وجهه، فأظهروا الإِسلام وأبطنوا النفاق والكفر.
قلت: وقد صحت رواية في أسباب نزول هذه الآية عن الزهري من رواية ابن أبي عاصم، عن عروة عن أسامة بن زيد أنَّه أخبره: [أن رسول الله - ﷺ - ركب على حمار فقال لسعد: ألم تسمع ما قال أبو الحباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: اعف عنه واصفح. فعفا عنه رسول الله - ﷺ -، وكان رسول الله - ﷺ - وأصحابه يعفون عن أهل الكتاب والمشركين، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾] (٢).
ولا شك أن هذا الأمر بالعفو والصفح عن المشركين كان في أول الإِسلام، أيام غربته الأولى، ثمَّ أكرم الله المؤمنين بالشوكة ونزول آية السيف.
قال ابن عباس: (﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾: نسخ ذلك قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ...﴾ [التوبة: ٥]، وقوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..﴾، إلى قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]، فنسخ هذا عفوَه عن المشركين).
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وقتادة: (إنها منسوخة بآية السيف).
ولا ريب أن قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ يرشد إلى ذلك.

(١) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (٤٥٦٦) كتاب التفسير، ضمن حديث طويل عن آية آل عمران (١٨٦).
(٢) الحديث في الصحيح من طريق شعيب بن أبي حمزة بهذا السند، لكن ليس في الصحيح سبب النزول. انظر صحيح البخاري -حديث رقم- (٤٥٦٦)، وانظر للرواية السابقة: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة البقرة، آية (١٠٩).


الصفحة التالية
Icon