قال ابن جرير: (وذلك أنَّه أعلم القوم أنَّه بصير بجميع أعمالهم، ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورًا لهم عنده حتى يُثيبهم عليه، كما قال: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، وليحذروا معصيته، إذ كان مطّلعًا على راكبها، بعد تقدُّمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوْعَدَ عليه ربُّنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وَعَدَ عليه فمأمور به. أما قوله: ﴿بَصِيرٌ﴾، فإنَّه "مُبْصر" صُرِفَ إلى ﴿بَصِيرٌ﴾، كما صُرِفَ "مُبْدع" إلى "بديع" و"مؤلم" إلى "أليم").
١١١ - ١١٣. قوله تعالى: ﴿وَقَالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١١١) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
في هذه الآيات: يخبر سبحانه وتعالى عن غرور اليهود والنصارى حين ادّعت كل طائفة منهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم الله بغرورهم، كما أكذبهم حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ...﴾ [المائدة: ١٨]، ثمَّ الفصل بينهم يوم القيامة.
والهود: جم هائد، وهو التائب الراجع إلى الحق. أو أن يكون مصدرًا عن الجميع، وقيل: المراد إلا من كان يهودًا. وهذا ما عناه القوم وحلّقوا فيه بأمانيهم. قال قتادة: (﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾: أماني يتمنَّونها على الله كاذبة).
وقال الربيع: (تمنوا على الله بغير الحق).
قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾. قال قتادة: (هاتوا بَيِّنَتَكُمْ). وقال السدي: (هاتوا حُجَّتَكُم). وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعني: في دعواكم.
قال الرازي: (دلت الآية على أن المدعي سواء ادّعى نفيًا أو إثباتًا، فلا بد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد).