وراءه، فكنت أخدُم رسول الله - ﷺ - كلما نزل، وقال في الحديث: ثمَّ أقبل، حتى إذا بدا له أُحُدٌ قال: هذا جبل يُحِبُّنا ونُحِبُّه. فلما أشرف على المدينة قال: اللهم! إني أُحَرِّمُ ما بين جَبَلَيْها مثلَ ما حرّم به إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكة، اللهم! بارِك لهم في مُدِّهم وصاعهم] (١).
الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - ﷺ - يوم فتح مكة: [إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضَدُ شوكه، ولا يُنَفَّرُ صيدُه، ولا تُلتقط لُقَطَتُه إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذْخر فإنَّه لقَينهم ولبيوتهم. فقال: إلا الإذخِرَ] (٢).
ولا منافاة بين الحديث الرابع وما قبله، فإنَّه جاء فيه أن الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، في حين جاء في الأحاديث قبله أن إبراهيم حرّمها. ووجه الجمع: إن إبراهيم عليه السلام بلَّغ عن الله حُكمه فيها وتحريمه إياها منذ خلق السماوات والأرض.
قال ابن كثير: (لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنَّه قد كان رسول الله - ﷺ - مكتوبًا عند الله خاتم النبيين، وإن آدمَ لَمُنْجَدِلٌ في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره).
وقوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾.
أي: من الخوف، لا يَرْعَبُ أهله. وقد فعل الله ذلك شرعًا وقدرًا. كما قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾. وفي سورة العنكبوت: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾.

(١) حديث صحيح. أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك. انظر صحيح البخاري (٣٨٩٣)، وصحيح مسلم (١٣٦٥) واللفظ له، الباب السابق.
(٢) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (١٨٣٤)، وصحيح مسلم (١٣٥٣)، ومسند أحمد (١/ ٣١٥ - ٣١٦). والإذخر: نبات عشبي من فصيلة النجيليات له رائحة ليمونية عطرة.


الصفحة التالية
Icon