قال ابن إسحاق: (فلما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقَفَ العير والأسيرين. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا. فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُقِط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعَنَّفَهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهرَ الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال... فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (١).
لقد أنزل الله في القرآن ما يخرس المشركين ويسوّغ صنيع المسلمين، فإن كل الحرمات المقدسة قد انتهكها طغاة مكة في البلد الحرام، وقد استباحوا لأنفسهم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلب أموال المسلمين بعد هجرتهم وإخراجهم، وقد أذاقوا ضعفاءهم شر ألوان التعذيب على الرمال المنصهرة وتحت الشمس الحارقة، فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها وحرمتها فجأة؟
وقوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
قال ابن القيم: (والمقصود: أن الله سبحانه قد حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحقُ بالذم والعيب والعقوبة، ولا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ جاءتْ محاسِنُه بألف شفيع
فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍّ جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن) (٢).
(١) انظر: سيرة ابن هشام (١/ ٦٠١ - ٦٠٤)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (١/ ٥٢٦).
(٢) انظر: زاد المعاد (٣/ ١٧٠ - ١٧١)، والمرجع السابق (١/ ٥٢٦ - ٥٢٧) - لمزيد من التفصيل.


الصفحة التالية
Icon