وقوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ فيه تأويلان بناء على قراءتين:
القراءة الأولى: قراءة أهل المدينة "ترونهم". والمعنى: ترون أيها اليهود المشركين مِثْلي المسلمين رأي العين، ومع ذلك نصر الله المؤمنين لتعتبروا.
القراءة الثانية: قراءة أهل الكوفة والبصرة وبعض المكيين: "يرونهم مثليهم". أي يرى المسلمون الكفار مثليهم في القدر. وهذه القراءة الأشهر.
وفي الواقع كان المشركون أكثر من ذلك، كما في المسند وسنن أبي داود من حديث علي - في يوم بدر -: [قال: ثم إن النبي - ﷺ - سأله: كم ينحرون من الجزر؟ قال: عشر كل يوم، فقال رسول الله - ﷺ -: القوم ألف كل جزور لمئة ونيفها] (١).
ورواه ابن إسحاق بلفظ: [قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، فقال رسول الله - ﷺ -: القوم ما بين التسع مئة والألف] (٢).
وأما وجه الجمع بين ذلك وبين قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٤]. فالجواب - كما ذكر الحافظ ابن كثير - أن هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى.
فقد أخرج ابن جبير عن السدي عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾، قال: (هذا يوم بدر. قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾).
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: (لقد قُلِّلُوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة. قال: فأسرنا رجلًا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا). فعندما عاين كل من الفريقين الآخر، رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي: أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم، عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب

(١) حديث صحيح. رواه أحمد (١/ ١١٧)، وأبو داود (٢٦٦٥)، في أثناء حديث طويل.
(٢) رواه ابن إسحاق في "السيرة". وانظر مسند أحمد (٢/ ١٩٣)، وصححه أحمد شاكر برقم (٩٤٨)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (١/ ٥٤٤).


الصفحة التالية
Icon