فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)}
في هذه الآية: أمْرٌ من الله سبحانه بالتأني أثناء القتال وعدم التعجل بقتل من التبس أمره، وعدم الإسراع في القتل إلا لمن كان حربًا لله ورسوله، فإن ما عند الله أكبر من غنيمة الدنيا بأسرها، وإسلام الناس أحب إلى الله من سفك الدماء حتى لو كان ظاهره الخوف من أهوال السلاح والحرب، فقد كنتم أيها المؤمنون في جاهلية وامتن الله عليكم وأنقذكم منها فتمهلوا والله خبير بنواياكم وأعمالكم.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عطاء، عن ابن عباس: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾. قال: قال ابن عباس: [كان رجل في غُنَيْمةٍ له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه، فأنزل الله في ذلك: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. قال ابن عباس: عَرَض الدنيا تلك الغنيمة] (١). ولفظ الترمذي: [مرّ رجل من بني سُليم على نفر من أصحاب رسول الله - ﷺ -، ومعه غنم له، فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا وقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾].
وأخرج الإِمام أحمد بسند جيد عن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: [بعثنا رسول الله - ﷺ - إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربْعيّ، ومُحَلِّم بن جَثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم، مَرَّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له، معه مُتَيّع له وَوَطْبٌ (٢) من لبن، فلما مرَّ بنا سَلَّم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحلِّم بن جَثَّامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومُتَيِّعه، فلما قدمنا على رسول الله - ﷺ - وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿خَبِيرًا﴾] (٣).
وأخرج الحافظ أبو بكر البزار بسند جيد عن ابن عباس قال: [بعث رسول الله - ﷺ -
(٢) القَعود: البكر من الإبل: متيع: تصغير متاع، والوطب: سقاء اللبن.
(٣) حديث رجاله ثقات. أخرجه أحمد (٦/ ١١)، والطبري (١٠٢١٧)، والطبراني وغيرهم.