قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (والمقصود أن الله بعث محمدًا - ﷺ - على فترة من الرسل، وطُمُوس من السُّبُل، وتَغَيُّر الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمةُ به أتمَّ النعم، والحاجة إليه أمرٌ عَمَمٌ، فإن الفساد كان قد عمَّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهرَ في سائر العباد، إلا قليلًا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعُبَّاد النصارى والصابئين).
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن عياضِ بن حِمَارٍ المُجَاشِعيِّ، أن رسول الله - ﷺ - قال ذات يوم في خُطْبَتِه: [ألا! إن ربي أَمَرَني أن أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُم مِمَّا عَلَّمَني، يَوْمي هذا، كُلُّ مال نَحَلْتُهُ عبدًا، حلالٌ، وإني خَلقْتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنهم أَتَتْهُم الشياطين فاجْتالتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُم أن يُشركوا بي ما لمْ أُنْزِلْ به سلطانًا، وإن الله نَظَرَ إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُم وعَجَمَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بَعَثْتُك لأبتليك وأَبْتَلِيَ بك، وأَنْزَلْتُ عليك كتابًا لا يَغْسِلُه الماءُ، تَقْرَؤُه نائِمًا ويَقْظانَ، وإن الله أَمَرَني أن أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: ربِّ! إذن يَتْلَغُوا رأسيِ فيَدَعوه خُبْزَةً، فقال: استَخْرِجْهُم كما استخرجوك، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وأَنْفِقْ فسَيُنْفقَ عليك، وابْعَث جَيْشًا نبعثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وقاتِلْ بِمَنْ أطاعك من عصاكَ، قال: وأهل الجَنَّة ثلاثة: ذو سُلطان مُقْسِطٌ مُتَصَدِّق مُوَفَّقٌ، ورجُلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكل ذي قُربى ومُسْلِم، وعفيفٌ ومُتعففٌ ذو عيال. قال: وأهل النار خَمْسَةٌ: الضعيفُ الذي لا زَبْرَ لَهُ، الذين هم فيكم تَبَعًا لا يَتْبَعونَ أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى لَهُ طَمَعٌ - وإن دَقَّ - إلا خانَهُ، ورجُلٌ لا يُصْبحُ ولا يُمْسي إلا وهو يخادِعُكَ عنْ أهلِكَ ومالِكَ. وذكر البُخْلَ أو الكذِبَ وَالشِّنْظيرُ: "الفَحَّاشُ"] (١).
وقوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾.
أي كي لا تقولوا، أو أن لا تقولوا. قال ابن جرير: (كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله - ﷺ -، وأبلغ إليهم في الحجة).
والبشير المبشِّر بالثواب لمن أطاع الله وآمن برسوله، والنذير المنذر بالعقاب لمن عصى الله وكذب رسوله.

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم (٢٨٦٥)، كتاب الجَنَّة ونعيمها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجَنَّة وأهل النار، ورواه أحمد (٤/ ٢٦٢)، والبيهقي (٩/ ٦٠).


الصفحة التالية
Icon